مفاهيم خاطئة عن الطب النفسى وعلاجاته

مفاهيم خاطئة عن الطب النفسى وعلاجاته

2025-09-14

يواجه الطب النفسى اتهامات عدة، البعض يقلل منه ولا ينظر إليه كما ينظر إلى تخصصات الطب الأخرى. البعض يخاف منه ويراه وصمة وهو ما عززه إعلامنا كثيراً. والبعض ينظر إليه نظرة تشاؤمية لأنه لا يمثل له سوى انعكاسا للجنون.

والحقيقة أن الطب النفسى هو أحد أهم مجالات الطب فى العصر الحديث، والأمراض النفسية يزداد رصدها ويزداد البحث والاكتشافات العلمية المدروسة فى علاجاتها.

هل تعلمين مثلا أن الانتحار من الأسباب الرئيسية للوفاة عالميًا؟ وأن معظم حالات الانتحار لديها تاريخ مرضى بأمراض نفسية كالاكتئاب الجسيم أو اضطراب ثنائي القطب؟ هل تعلمين أن من المتوقع أن يقفز الاكتئاب المرضى عاليا ليكون من الأسباب الثلاثة الأولى للوفاة بحلول عام 2030؟

فى السطور التالية، أحاول سرد بعض المعتقدات الخاطئة عن الطب النفسى، والعلاجات النفسية. وآمل أن تكون كلماتي ذات أثر طيب فى تصحيح المفاهيم، وإعادة النظر، وتثبيت أقدام من تفكر في طلب العلاج النفسي الإيماني.

أنتِ لا تُعانين من أي مشكلات صحية

من الشائع فى المستشفيات العامة والعيادات أن يذهب بعض المرضى لإجراء الكشف والفحوصات الطبية اللازمة لمعرفة سبب عرض أو ألم ما يشعرون به. وتأتى نتائج الفحص السريري والمعملى وغيرهما بما لا يفسر إطلاقا أو لا يفسر بشكل كامل شكوى المريض.

هنا تأتي إجابة الطبيب : “الفحوصات سليمة،وأنت لا تعانى من أى مشكلات صحية”

مما قد يُشعر المريض بالإحباط لأنه لازال يعانى الألم والمشقة ولم تخفف كلمات الطبيب من ذلك شيئا.

الأعراض النفسجسدية Somatization هي أعراض جسدية واضحة يشعر بها المريض ولا يوجد تفسير طبى واضح لها-ربما لأنه لم يكتشف بعد- وربما لأن العامل النفسى -المتعلق بالأفكار والمشاعر-يلعب دورا أكبر.

عمى المشاعر alexithymia يعبر عن حال بعض الأشخاص، يعانون صعوبة فى التعرف على مشاعرهم والتعبير عنها بوضوح، ولا يحسنون التعامل مع الضغوط. فتختلط أفكارهم ومشاعرهم الداخلية بإحساسهم الجسدى وعندما يصمت اللسان ينطق الجسد.

ربما الطبيب خانه التعبير عندما قال: “أنتِ لا تعانين من أى مشكلات صحية”. الأصح هو أنكِ تعانين بالفعل، وشكواكِ حقيقية تماما، لكنها تحتاج تدخلا طبيا من نوع آخر.

قد يرشدك طبيبك للذهاب إلى طبيب نفسى، ما يستقبله بعض المرضى كانتقاص من شكواها أو إهانة لشخصها، ويرجع ذلك لأسباب عدة منها الوصمة حول الصحة النفسية في مجتمعاتنا والتي لازال يعانى منها الطب والمريض النفسى.

والحقيقة أن الطب النفسي هو أحد التخصصات الطبية، أمراضه العضوية تترك أثرها على المخ شكلا ووظيفة، وتترجم بعض أعراضه كأعراض جسدية. وعلاجاته سواءا كانت بالأدوية أو العلاج الكلامي مدروس أثرها بشكل علمى وعملى، ولا زالت الاكتشافات فيه تتوالى، كأي تخصص آخر.

فإذا كنت تعانين مشكلة صحية، وقمتِ بالذهاب لأطباء عدة، وأجريت فحوصات كثيرة بلا جدوى، قد تساعدك زيارة طبيب نفسي وقد تجدين في العيادة النفسية ارتياحا لم تجديه خارجها.

المريض النفسى مصدر خطر على الآخرين

يعتقد البعض أن المريض النفسى يتسم بالعنف ويتسبب فى إلحاق الأذى بالآخرين -وهو ما قد يحدث فعلا فى الحالات المرضية الحادة والشديدة فى درجتها- لكن بشكل عام، أثبتت الدراسات أن معدل أعمال العنف من المرضى النفسيين لا يتجاوز معدل أعمال العنف ممن لا يعانون أمراضا نفسية, بل إن المريض النفسى أكثر عرضة لأن يكون ضحية للعنف لا متسببا فيه.

لا يستطيع المريض النفسى أن يحيا حياة طبيعية

يعتقد البعض أن تكون مريضا نفسيا يعنى أن حياتك قد توقفت، وأنك أصبحت عالة على غيرك، وبحاجة لمن يتكفل بكل احتياجاتك ويتحمل جميع مسئولياتك.

والحقيقة أن المرض النفسى هو كأي مرض عضوي، تختلف درجات الشدة فيه. والحالات المتأخرة والشديدة فيه قد تتسبب فيما يشبه ذلك فعلا، كأي مرض عضوي فى حالته المتأخرة كالسرطان مثلا والفشل الكبدى والكلوى -عافانا الله وإياكم-.

أما الحالات المؤقتة أو طويلة المدى لكن بسيطة أو متوسطة الشدة فهى كمثيلاتها من الأمراض العضوية كالسكري وأمراض الضغط. تلتزم فيها بالدواء أو العلاج الكلامى-ما تقرره مع طبيبك بعد مررورك بالفحص-وأيضابعض التعديلات فى نظامك اليومى والحياتي. ثم تحيين بشكل طبيعى تماما، تعتنين بنفسك وأسرتك، وتمارسين نشاطك الرياضى والاجتماعى والترفيهي و تمارسين عملك كأي شخص آخر.

الأدوية النفسية ما هي إلا مواد مخدرة

هناك اعتقاد شائع أن الأدوية النفسية تسبب الإدمان ما يجعل الكثيرين يحجمون عن زيارة الطبيب النفسي خوفا من الدخول فيما يسمونه”دوامة العلاج”.

والحقيقة أن بعض الأدوية التى قد يتطلب تشخيص المريض كتابتها قد تسبب الإدمان فعلا -وهذا مالا يحدث فيها حتى مع كوْن الإدمانية من خصائص الدواء- إذا التزم المريض تعليمات الطبيب فى الجرعة والمدة المحددة مع التقليل التدريجى كما يرشد الطبيب حتى نوقف الدواء تماما.

أما المعظم المتبقى من الأدوية النفسية فهو كباقى الأدوية العامة، لا تسبب الاعتمادية، وليست إدمانية على الإطلاق. فإذا كان ذلك المعتقد هو سبب في ترددك فى الذهاب إلى طبيب نفسى، أرجو أن يكون تصحيح المعلومة سبباً في إعادة النظر في قرارك.

المرض النفسى ضعف فى الشخصية/ضعف فى الإيمان

يظن البعض أن المرض النفسى يعكس بالضرورة ضعفا فى شخصية المريض، أو ضعفا فى إيمانه وهو ما يبعد كل البعد عن الحقيقة.

المرض النفسى كأى مرض عضوى، له أساس جينى/بيولوجى -لا دخل لنا فيه- ساعد فى ظهوره عوامل بيئية ونفسية ومجتمعية. ويحتاج التدخل العلاجى كأي مرض آخر.

أما فيما يتعلق بالإيمان والمعتقد الدينى، فهو بالفعل قد يكون من الأسباب الوقائية -أثبتت الدراسات أن معدلات الانتحار فى أصحاب الديانات أقل من معدلات الانتحار فيمن لا يؤمنون بالأديان-. وقد يساعد فى تقبل المرض اعتباره كابتلاء له أجره ومنها الوصول لمرحلة التقبل والرضا، ما يترك أثراً فى عملية التعافى.

كأن يكون المريض أكثر حرصا على العلاج من باب الأخذ بالأسباب فتصبح العوامل الجيدة لحسن المآل prognosis أكثر قوة.

أما الاعتقاد بأن قوة الشخصية والمرض النفسى لا يجتمعان، أو أن الإيمان والمرض النفسى لا يجتمعان، هو اعتقاد خاطئ ومُعطِّل. وسبب فى ألا يحصل المريض مبكراً على ما يستحقه من رعاية لازمة قد تكون سببا فى تفادى درجات أشد وأكثر تعقيدا من المرض.

المرض النفسي لا شفاء منه

يظن البعض أن جميع التشخيصات النفسية مزمنة، وأن العلاج النفسى يمتد لآخر العمر. وهو الحال بالفعل فى بعض التشخيصات، كما هو الحال في تشخيصات عضوية أخرى كالسكري وأمراض الضغط.

ولكن يوجد بالطب النفسى تشخيصات مؤقتة، بسيطة أو متوسطة الشدة، أو تأتى فى شكل نوبات. مثلها مثل الوعكات الصحية الأخرى كأدوار الإنفلونزا ونوبات الصداع تأخذ حظها من العلاج الدوائى أو الكلامى حتى تهدأ حدة الأعراض أو تختفى ويتوقف العلاج عندئذ.

العلاج النفسى دوائي فقط

يظن البعض أن زيارتك للطبيب النفسى تساوى بالضرورة العلاج الدوائى. والعلاج الدوائى ضرورى حقاً فى بعض الأمراض النفسية-خاصة فى الدرجة المتوسطة إلى الشديدة-.

غير أن هناك عالم آخر من العلاج اسمه العلاج النفسي الكلامي psychotherapy. مدارسه عديدة، أهمها العلاج المعرفي السلوكي، والذي يمكن دمجه مع نهج العلاج النفسي القائم على الإيمان للعديد من النساء المسلمات.

نكتفى بها فى مشكلات نفسية عديدة،أو نلتزم بها جنبا إلى جنب مع العلاج الدوائى.

الأدوية النفسية لا فائدة منها

قد يخبرك شخص ما:“ذهبت إلى الطبيب ووصف لى علاجا التزمت به أسبوعا أو أسبوعين ولم أجد له أثرا،بالعكس عانيت من آثاره الجانبية،فتركته”.

وأقول لك:لقد أخبرك الشخص بالحقيقة.

فغالب الأدوية النفسية تحتاج بعض الوقت كى تلمس أثرها. قد تحتاج من أسبوع لأسبوعين وربما أكثر فى بعض الأمراض كى تبدأ عملها الفعلي.

وهى -كأى دواء-لها أعراض جانبية تظهر وتخف حدتها تدريجيا بمرور الوقت. وإذا لم تخف حدتها أو هى مزعجة جداً بالنسبة لكِ نتدخل للتعامل معها بشكل دوائى أو تكيّفى وربما نغير الدواء بآخر. وهذا ما نخبر به مرضانا مع وصف العلاج لبناء الوعى ووضع توقعاتهم فى مكانها الصحيح.

خطأ المريض هنا أنه قرر التوقف عن العلاج من نفسه، قبل مراجعة طبيبه، ربما فى الوقت الذى كان سيبدأ فيه الشعور بالتحسن. بأن يبدأ الدواء مفعوله أو تخف حدة الأعراض الجانبية أو كليهما.

والأدوية النفسية على وجه الخصوص تحتاج استشارة طبيب متخصص قبل البدء بها -لا تأخذها من تلقاء نفسك بناء على نصيحة صديق مثلا- وقبل التوقف عنها -لأنها لا تتوقف فورا بل تسحب تدريجيا بشكل يختلف من مريض لآخر حسب استجابته مع مراقبة دقيقة لأى احتمالات للانتكاس-

بدأت العلاج النفسي الكلامي ووضعى يزداد سوءا

قد يخبرك شخص ما:“لما بدأت الجلسات النفسية،صار الوضع أسوأ وأكثر صعوبة”.

العلاج النفسي الكلامي ليس مجرد بوح بما فى داخلك -هو خطوة أساسية وأولية طبعا لكنه لا يمثل كل شىء-. أنت تبوح بما يؤلمك -وهو ليس سهلا وربما أنت تفعله بهذا الوضوح وهذا العمق لأول مرة- ثم نعيد سويا ترتيب المشاهد.

ونضع أيدينا على المشكلات ونحدد ما يمكننا العمل عليه وما هو خارج عن إرادتنا ثم نضع أهدافا علاجية وخطة عمل نلتزم بخطواتها سويا كى نصل إلى النتيجة المرجوة.

ألم البوح فى البداية قد يجعل الحالة الشعورية تزداد سوءا لبعض الوقت -عدة جلسات-ثم مع تنظيمها والعمل على الأفكار المتعلقة بها والسلوكيات المترتبة عليها يحدث التحسن التدريجي طويل المدى.

كما أن تغيير العادات اليومية والأنماط الثابتة المتكررة للشخصية يتطلب جهدا ووقتا -ما يخالف التوقعات العالية لبعض المرضى- فيسبب لهم إحباطا و يتسرعون في الحكم على العملية العلاجية.

ووضع التوقعات في محلها. والاستعداد الحقيقي للتغيير والالتزام بمتطلبات العلاج هى مفاتيح أساسية كى ينجح الطبيب أو المعالج النفسى فى مهمته مع مريضه.

علاج جلسات الكهرباء/الصدمة الكهربائية ECT مؤلم ووحشي

من الاعتقادات الشائعة جداً والتى ساهم الإعلام والدراما -للأسف- فى ترسيخها في المجتمع أن جلسات الكهرباء لا تعكس سوى الوحشية والبربرية مع المريض النفسى وأن المريض يتألم أشد الألم مع استخدامها.

والحقيقة أنه أحد العلاجات الفعالة جدا فى الحالات شديدة الدرجة، ويكون الاستجابة لها أسرع والأعراض الجانبية أخف وطأة من الأدوية النفسية.

تستخدم الجلسات الكهربية بشكل مؤقت -يتحدد عدد الجلسات حسب طبيعة المرض واستجابة المريض- في الحالات الحادة أو شديدة الدرجة كما أوضحنا سابقا وبعد استقرار الحالة تعاود الاستمرار على العلاج الدوائى، وقد يعاد استخدامه وقت اشتداد النوبات.

كما أن الجلسات لا تكون مؤلمة أبدا لأن المريض يكون مخدرا،وإذا سألته عما حدث فسيخبرك أنه لا يتذكر ولم يشعر بشيء.

هذه بعض الأفكار المغلوطة التى سمعتها بالفعل من المحيطين فى الجلسات الاجتماعية والعيادية وآمل أن تساهم كلماتى فى رسم صورة أكثر واقعية، وتثبيت أقدام المترددين في طلب المساعدة. تذكري، أنتي لستِ وحدكِ، والخطوة الأولى نحو الراحة النفسية تبدأ بطلب الدعم من مختصة تتفهم تجاربك الفريدة كامرأة مسلمة.

دمتم بخير وعافية


عن المؤلفة

د. دعاء عبد الدايم، طبيبة نفسية مرخصة من هيئة الصحة بدبي، لديها خبرة تمتد لثماني سنوات في مجال الصحة النفسية للبالغين والأطفال والنساء. تتخصص في تقديم العلاج النفسي الإيماني والدعم النفسي المسترشد بنور الإسلام. إذا كنتِ تواجهين صعوبات وتبحثين عن طبيبة نفسية للنساء المسلمات، يمكنكِ حجز جلسة مع د. دعاء في منصة مشكاة عبر واتساب. يمكنك أيضاً زيارة صفحتها الشخصية للمزيد من المعلومات.